فصل: مطلب هَلْ الْأَفْضَلُ إذَا أُكْرِهَ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ أَنْ يُجِيبَ أَوْ يَصْبِرَ؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **


 مطلب فِي حُكْمِ قَتْلِ مَا خَلَا مِنْ النَّفْعِ وَالضُّرِّ

كَدُودِ ذُبَابٍ وَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ انْتِفَاعٌ وَلَا أَذًى كَدُودٍ ذُبَابٍ لَمْ يَضِرْ كُرْهَهُ طَدِ ‏(‏وَمَا‏)‏ أَيْ شَيْءٌ أَوْ الَّذِي ‏(‏لَمْ يَكُنْ‏)‏ يُوجَدُ ‏(‏فِيهِ‏)‏ أَيْ ذَلِكَ الشَّيْءِ ‏(‏انْتِفَاعٌ وَلَا أَذَى‏)‏ ‏,‏ بَلْ خَلَا عَنْ النَّفْعِ ‏,‏ وَالْأَذَى مَعًا ‏(‏كَدُودِ ذُبَابٍ‏)‏ بِإِضَافَةِ دُودٍ إلَى ذُبَابٍ احْتِرَازًا عَنْ مُطْلَقِ الدُّودِ الشَّامِلِ لِدُودِ الْقَزِّ ‏,‏ وَالْقِرْمِزِ الَّذِي يَصْبُغُ بِهِ ‏,‏ وَهُوَ دُودٌ أَحْمَرُ يُوجَدُ فِي شَجَرَةِ الْبَلُّوطِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ صَدَفِيٌّ شَبِيهٌ بِالْحَلَزُونِ يَجْمَعُهُ نِسَاءُ تِلْكَ الْبِلَادِ بِأَفْوَاهِهِنَّ وَالدِّيدَانُ الْمَمْلُوكُ ‏,‏ فَإِنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ لِصَيْدِ سَمَكٍ ‏,‏ وَالْعَلَقُ لِمَصِّ دَمٍ ‏,‏ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَمْلُوكًا ‏,‏ فَإِنَّ قَتْلَهُ مُحَرَّمٌ بِخِلَافِ دُودِ الذُّبَابِ ‏,‏ فَإِنَّهُ لَا يُمْلَكُ لِعَدَمِ النَّفْعِ بِهِ ‏.‏

وَالدُّودُ جَمْعُ دُودَةٍ وَجَمْعُ الدُّودِ دِيدَانٌ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ‏:‏ كَانَ دَاوُدُ عليه السلام فِي مِحْرَابِهِ فَأَبْصَرَ دُودَةً صَغِيرَةً قَالَ فَفَكَّرَ فِي خَلْقِهَا ‏,‏ وَقَالَ‏:‏ مَا يَعْبَأُ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي خَلْقِ هَذِهِ قَالَ‏:‏ فَأَنْطَقَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَتْ‏:‏ يَا دَاوُدُ تُعْجِبُك نَفْسُك لَأَنَا عَلَى قَدْرِ مَا آتَانِي اللَّهُ أَذْكُرُ اللَّهَ وَأَشْكَرُ لَهُ مِنْك عَلَى مَا آتَاك اللَّهُ ‏.‏

قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ‏}

وَالذُّبَابُ وَاحِدَتُهُ ذُبَابَةٌ وَلَا تَقُلْ ذبانة وَجَمْعُهُ فِي الْقِلَّةِ أَذِبَّةٌ ‏,‏ وَفِي الْكَثْرَةِ ذِبَّانٍ بِكَسْرِ الذَّالِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ مِثْلُ غُرَابٍ وَأَغْرِبَةٍ وَغِرْبَانٍ ‏.‏

سُمِّيَ ذُبَابًا لِكَثْرَةِ حَرَكَتِهِ وَاضْطِرَابِهِ ‏,‏ وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا ‏"‏ الذُّبَابُ كُلُّهُ فِي النَّارِ إلَّا النَّحْلَ ‏"‏ قِيلَ كَوْنُهُ فِي النَّارِ لَيْسَ بِعَذَابٍ لَهُ ‏,‏ بَلْ لِيُعَذَّبَ بِهِ أَهْلُ النَّارِ بِوُقُوعِهِ عَلَيْهِمْ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ ‏.‏

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيَّ وَابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَمْقُلْهُ ‏,‏ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً ‏,‏ وَفِي الْآخِرِ دَوَاءً ‏,‏ وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ ‏"‏ ‏,‏ وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ ‏"‏ إنَّ أَحَدَ جَنَاحَيْ الذُّبَابِ سُمٌّ ‏,‏ وَالْآخِرَ شِفَاءٌ ‏,‏ فَإِذَا وَقَعَ فِي الطَّعَامِ فَامْقُلْهُ ‏,‏ فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ السُّمَّ وَيُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ ‏"‏ ‏.‏

قَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ‏:‏ وَقَدْ تَأَمَّلْت الذُّبَابَ فَوَجَدْته يَتَّقِي بِجُنَاحِهِ الْأَيْسَرَ ‏,‏ وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلدَّاءِ كَمَا أَنَّ الْأَيْمَنَ مُنَاسِبٌ لِلدَّوَاءِ ‏.‏

وَاسْتُفِيدَ مِنْ الْحَدِيثِ عَدَمُ تَنْجِيسِهِ لِلْمَائِعِ ‏,‏ وَلَوْ مَاتَ فِيهِ كَسَائِرِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ مِنْ الْبَقِّ ‏,‏ وَالْبَعُوضِ ‏,‏ وَالْعَقْرَبِ وَأَشْبَاهِهَا فَكُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَفْعٌ وَلَا أَذًى مِنْ الذُّبَابِ وَنَحْوِهِ ‏(‏لَمْ يَضُرَّ‏)‏ أَحَدًا ‏(‏كُرْهُهُ‏)‏ وَإِتْلَافُهُ ‏(‏طَدِ‏)‏ أَمْرٌ مِنْ وَطَدَ الشَّيْءَ يَطِدُهُ وَطْدًا إذَا أَثْبَتَهُ وَثَقَّلَهُ يَعْنِي أَنَّ مَا خَلَا عَنْ النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَانَ إتْلَافُهُ وَعَدَمُ إتْلَافِهِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ فَيَرْجِعُ إلَى قِسْمٍ مَا فِيهِ نَفْعٌ وَضُرٌّ حَيْثُ خَلَا عَنْ مِلْكِيَّةِ مَعْصُومٍ ‏;‏ لِأَنَّهُ لَمَّا اتَّصَفَ بِالنَّفْعِ وَالضُّرِّ تَعَادَلَ ضُرُّهُ وَنَفْعُهُ فَتَسَاقَطَا فَصَارَ كَمَا لَا نَفْعَ فِيهِ وَلَا ضَرَرَ ‏,‏ وَالْحَاصِلُ مِنْ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْبُولًا عَلَى الْأَذَى وَالضَّرَرِ طَبْعًا بِلَا نَفْعٍ فَيُقْتَلُ ‏,‏ أَوْ ضِدَّهُ ‏,‏ وَهُوَ مَا فِيهِ نَفْعٌ بِلَا ضَرَرٍ فَلَا ‏,‏ أَوْ مَا فِيهِ ضَرَرٌ وَنَفْعٌ وَخَلَا عَنْ مِلْكِيَّةِ مَعْصُومٍ ‏,‏ أَوْ خَلَا عَنْ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ فَيُبَاحُ قَتْلُهُمَا وَعَدَمُهُ ‏,‏ وَالْمُرَادُ مَا لَمْ يَكُنْ نَهْيُ الشَّارِعِ عَنْ إتْلَافِهِ كَالضُّفْدَعِ وَالنَّمْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِيمَا يَحِلُّ لِلْمُكْرَهِ

‏,‏ وَمَا لَا يَحِلُّ وَمَا حَلَّ لِلْمُضْطَرِّ حَلَّ لِمُكْرَهٍ ‏,‏ وَمَا لَا فَلَا غَيْرَ الْخُمُورِ بِأَوْكَدِ ‏(‏وَمَا‏)‏ أَيْ كُلُّ شَيْءٍ ‏(‏حَلَّ لِلْمُضْطَرِّ‏)‏ مِنْ أَكْلِ الْمَيِّتَةِ وَالدَّمِ ‏,‏ وَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهَا ‏(‏حَلَّ‏)‏ أَيْ‏:‏ فَإِنَّهُ يُحِلُّهُ ‏(‏لِمُكْرَهٍ‏)‏ بِفَتْحِ الرَّاءِ إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ ‏,‏ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ‏"‏ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ‏,‏ وَالْبَيْهَقِيُّ وَحَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ وَخَرَّجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ والدارقطني ‏.‏

وَذَلِكَ ‏;‏ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْمُضْطَرِّ ‏,‏ وَالْمُكْرَهِ إنَّمَا يَفْعَلُ مَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ ‏,‏ أَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ اتِّقَاءَ تَلَفِ نَفْسِهِ وَإِبْقَاءً لَهَا ‏,‏ وَالْمُكْرَهُ ‏,‏ وَإِنْ كَانَ لَهُ نَوْعُ اخْتِيَارٍ كَالْمُضْطَرِّ إلَّا أَنَّ غَرَضَهُ لَيْسَ نَفْسَ الْفِعْلِ ‏,‏ وَالْعَمَلِ ‏,‏ بَلْ دَفْعَ الضَّرَرَ عَنْهُ ‏,‏ وَالْأَذَى فَهُمَا مُخْتَارَانِ مِنْ وَجْهٍ غَيْرُ مُخْتَارَيْنِ مِنْ وَجْهٍ ‏;‏ وَلِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ الْمُكْرَهُ مُكَلَّفٌ فِي حَالِ إكْرَاهِهِ ‏,‏ أَوْ لَا ‏.‏

وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ ظَاهِرَ النَّظْمِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَا فِيهِ إتْلَافٌ لِمَعْصُومٍ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ‏;‏ وَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ‏:‏ ‏(‏وَمَا‏)‏ أَيْ كُلُّ شَيْءٍ ‏(‏لَا‏)‏ يَحِلُّ لِلْمُضْطَرِّ ‏(‏فَلَا‏)‏ يَحِلُّ لِلْمُكْرَهِ ‏,‏ فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ مَعْصُومٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ كَمَا لَوْ اُضْطُرَّ إلَى قتله وأكله ‏,‏ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ ‏.‏

بَحْثٌ فِي حُكْمِ الْمُكْرَهِ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ‏:‏ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ مَعْصُومٍ لَمْ يُبَحْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ ‏,‏ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقْتُلُهُ بِاخْتِيَارِهِ افْتِدَاءً لِنَفْسِهِ مِنْ الْقَتْلِ ‏,‏ هَذَا إجْمَاعٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَدِّ بِهِمْ ‏,‏ فَإِذَا قَتَلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ ‏,‏ وَالْمُكْرِهَ يَشْتَرِكَانِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِمَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْقَتْلِ ‏,‏ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْمَشْهُورِ وَأَحْمَدَ ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ يَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ وَحْدَهُ ‏;‏ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ صَارَ كَالْآلَةِ ‏,‏ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ‏.‏

قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ‏:‏ وَإِنْ أَكْرَهَ مُكَلَّفًا عَلَى قَتْلِ مُعَيَّنٍ فَقَتَلَهُ فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا يَعْنِي الْمُكْرَهَ ‏,‏ وَالْمُكْرِهَ ‏,‏ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَقَوْلِهِ‏:‏ اُقْتُلْ زَيْدًا ‏,‏ أَوْ عَمْرًا ‏,‏ أَوْ أَحَدَ هَذَيْنِ فَلَيْسَ إكْرَاهًا ‏,‏ فَإِنْ قَتَلَ أَحَدُهُمَا قُتِلَ بِهِ ‏,‏ وَإِنْ أَكْرَهَ سَعْدٌ زَيْدًا عَلَى أَنْ يُكْرِهَ عَمْرًا عَلَى قَتْلِ بِكْرٍ فَقَتَلَهُ قُتِلَ الثَّلَاثَةُ جَزَمَ بِهِ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى انْتَهَى ‏,‏ وَكَذَا لَوْ أَكْرَهَ عَلَى الزِّنَا ‏,‏ فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ كَمَا لَا يُبَاحُ لَهُ فِعْلُهُ بِالِاضْطِرَارِ إلَى الْجِمَاعِ ‏.‏

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ‏:‏ يُرَخِّصُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا يُكْرَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَأَكْلِ الْمَيِّتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ ‏,‏ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ رضي الله عنه ‏.‏

وَبِهِ تَعْلَمْ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ النَّاظِمِ الْخَمْرَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏غَيْرَ الْخُمُورِ‏)‏ فَلَا تَحِلُّ بِالْإِكْرَاهِ فَعَلَى هَذَا يُحَدُّ شَارِبُهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا ‏(‏بِأَوْكَدَ‏)‏ مَبْنِيٌّ عَلَى ضَعِيفٍ ‏,‏ وَهُوَ رِوَايَةٌ فِي الْمَذْهَبِ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ فِي التَّنْبِيهِ ‏.‏

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ‏,‏ وَهِيَ الْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْحَدِّ ‏;‏ لِأَنَّ الْخَمْرَةَ تُبَاحُ لِمُضْطَرٍّ لِإِسَاغَةِ نَحْوِ لُقْمَةٍ بِهَا إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا حَيْثُ خَافَ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ ‏.‏

قَالَ فِي الْفُرُوعِ‏:‏ وَيُقَدِّمُ بَوْلًا يَعْنِي عَلَى الْمُسْكِرِ إذَا غَصَّ وَعَلَيْهِمَا مَاءٌ مُتَنَجِّسًا وَاَللَّهُ أَعْلَم ‏.‏

حُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا تَنْبِيهٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إكْرَاهِ الرَّجُلِ عَلَى الزِّنَا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَصِحُّ إكْرَاهُهُ عَلَيْهِ وَلَا إثْمَ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ‏,‏ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ عَقِيلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يَصِحُّ إكْرَاهُهُ عَلَيْهِ ‏,‏ وَعَلَيْهِ الْإِثْمُ وَالْحَدُّ ‏,‏ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ‏,‏ وَمَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ‏,‏ وَهُوَ الْمَذْهَبُ جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ ‏,‏ وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا ‏,‏ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَتَأَتَّى الْإِكْرَاهُ فِي حَقِّهَا فَلَا إثْمَ وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

‏,‏ ثُمَّ أَشَارَ النَّاظِمُ إلَى إيضَاحِ مَا أَفْهَمُهُ مِنْ الْقَاعِدَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُصَرِّحًا بِأَنَّ أَفْعَالَ الْمُكْرَهِ لَغْوٌ لَا يُؤَاخَذُ بِهَا فَقَالَ‏:‏

 مطلب فِي أَنَّ أَفْعَالَ وَأَقْوَالَ الْمُكْرَهِ لَغْوٌ إلَّا فِي الْقَتْلِ

وَالْإِسْلَامِ وَالزِّنَا وَلَغْوٌ مَعَ الْإِكْرَاهِ أَفْعَالُ مُكْرَهٍ سِوَى الْقَتْلِ ‏,‏ وَالْإِسْلَامِ ‏,‏ ثُمَّ الزِّنَا قَدْ ‏(‏وَلَغْوٌ‏)‏ قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ اللَّغْوُ وَاللَّغَا كَالْفَتَى السَّقَطُ ‏,‏ وَمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ كَلَامٍ وَغَيْرِهِ كاللغوى كَسَكْرَى ‏(‏مَعَ الْإِكْرَاهِ‏)‏ مِمَّنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ ‏(‏أَفْعَالُ مُكْرَهٍ‏)‏ بِفَتْحِ الرَّاءِ ‏,‏ وَكَذَا أَقْوَالُهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى ‏,‏ فَإِنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ‏:‏ إنَّ التَّقِيَّةَ تَخْتَصُّ بِالْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالضَّحَّاكِ ‏,‏ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ ‏,‏ فَإِذَا قَالَ‏:‏ أَوْ فَعَلَ لِدَاعِي الْإِكْرَاهِ فَقَوْلُهُ وَفِعْلُهُ لَغْوٌ ‏,‏ وُجُودُ ذَلِكَ وَعَدَمُهُ مِنْهُ سَوَاءٌ ‏.‏

فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْوُضُوءِ ‏,‏ أَوْ الْغُسْلِ فَفَعَلَ ذَلِكَ لِدَاعِي الْإِكْرَاهِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ ‏,‏ وَكَذَا لَوْ أُكْرِهَ الصَّائِمُ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ فَأَكَلَ ‏,‏ أَوْ شَرِبَ لِدَاعِي الْإِكْرَاهِ لَمْ يُفْطِرْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ ‏.‏

وَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْبَيْعِ بِغَيْرِ حَقٍّ ‏,‏ أَوْ عَلَى الْإِقْرَارِ ‏,‏ أَوْ عَلَى الْكُفْرِ فَفَعَلَ لِدَاعِي الْإِكْرَاهِ مَعَ سَلَامَةِ قَلْبِهِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ ‏,‏ وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى السُّجُودِ لِصَنَمٍ ‏,‏ فَإِنْ كَانَ الصَّنَمُ تُجَاهَ الْقِبْلَةِ ‏,‏ أَوْ غَيْرِهَا فَلْيَسْجُدْ وَيَجْعَلْ نِيَّتَهُ لِلَّهِ تَعَالَى ‏,‏ وَالْمَذْهَبُ ‏,‏ وَلَوْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ لَمْ يَكْفُرْ إذَا سَجَدَ لِدَاعِي الْإِكْرَاهِ وَلَكِنَّ النِّيَّةَ أَوْلَى خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ ‏.‏

قَالَ الْحَافِظُ بْنُ رَجَبٍ‏:‏ وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى الْأَقْوَالِ فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّتِهِ ‏,‏ وَأَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَوْلٍ مُحَرَّمٍ إكْرَاهًا مُعْتَبَرًا أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْتَدِيَ نَفْسَهُ بِهِ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ‏,‏ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قوله تعالى ‏{‏إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ‏}‏‏,‏ وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَمَّارٍ رضي الله عنه ‏"‏ إنْ عَادُوا فَعُدْ ‏"‏ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ عَذَّبُوهُ حَتَّى يُوَافِقَهُمْ عَلَى مَا يُرِيدُونَهُ مِنْ قَوْلِ الْكُفْرِ ‏,‏ فَفَعَلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

‏,‏ ثُمَّ اسْتَثْنَى النَّاظِمُ رحمه الله تعالى ثَلَاثُ صُوَرٍ‏:‏ الْأُولَى مَا أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ ‏(‏سِوَى الْقَتْلِ‏)‏ لَا يَكُونُ فِعْلُ الْمُكْرَهِ إذَا فَعَلَهُ لَغْوًا ‏,‏ بَلْ مُؤَاخَذًا بِهِ ‏,‏ فَلَوْ أُكْرِهَ مُكَلَّفٌ عَلَى قَتْلِ إنْسَانٍ يُكَافِئُهُ فَقَتَلَهُ قُتِلَ بِهِ الْمُكْرَهُ وَالْمُكْرِهُ مَعًا هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ ‏,‏ وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ الْمَنْصُورُ ‏,‏ وَعِنْدَ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الْقَتْلَ عَلَى الْمُبَاشِرِ دُونَ الْآمِرِ ‏,‏ وَالْمَذْهَبُ عَلَيْهِمَا مَعَ الْإِكْرَاهِ الْمُعْتَبَرِ ‏;‏ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ يَقَعُ التَّعَارُضُ عِنْدَهُ بَيْنَ تَفْوِيتِ نَفْسِهِ وَنَفْسِ غَيْرِهِ وَهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى عَدْلِ الشَّرْعِ سَوَاءٌ ‏,‏ فَإِذَا أَقْدَمَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ فَقَدْ آثَرَ بَقَاءَ نَفْسِهِ عَلَى فَوَاتِهَا وَفَنَاءِ نَفْسِ غَيْرِهِ فَصَارَ مُخْتَارًا ‏,‏ وَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْإِكْرَاهِ ‏,‏ وَهُوَ مُكَلَّفٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ خِلَافًا للطوفي وَأَبِي الْخَطَّابِ فِي الِانْتِصَارِ ‏,‏ وَمِثْلُهُ لَوْ قِيلَ لَهُ‏:‏ اُقْتُلْ نَفْسَك وَإِلَّا قَتَلْتُك فَلَيْسَ بِإِكْرَاهٍ فَلَا يُبَاحُ لَهُ قَتْلُ نَفْسِهِ ‏.‏

وَاخْتَارَهُ فِي الرِّعَايَةِ أَنَّهُ يَكُونُ إكْرَاهًا ‏,‏ وَالْمَذْهَبُ لَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏(‏و‏)‏ الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ مَا أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ وَسِوَى ‏(‏الْإِسْلَامِ‏)‏ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ غَيْرَ ذِمِّيٍّ وَلَا مُسْتَأْمَنٍ وَأُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ ‏,‏ فَإِنَّ إسْلَامَهُ صَحِيحٌ ‏;‏ لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ بِحَقٍّ ‏.‏

قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ‏:‏ وَلَوْ أُكْرِهَ ذِمِّيٌّ ‏,‏ أَوْ مُسْتَأْمَنٌ عَلَى إقْرَارِهِ بِهِ يَعْنِي الْإِسْلَامَ لَمْ يَصِحَّ ‏;‏ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى إسْلَامِهِ طَوْعًا ‏,‏ مِثْلُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ ‏,‏ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكُفَّارِ ‏,‏ وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْكُفْرِ لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ وَلَا إكْرَاهُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ حَرْبِيٍّ وَمُرْتَدٍّ ‏,‏ فَإِنَّهُ يَصِحُّ إكْرَاهُهُمَا عَلَيْهِ وَيَصِحُّ ظَاهِرًا ‏,‏ فَإِنْ مَاتَ الْحَرْبِيُّ ‏,‏ أَوْ الْمُرْتَدُّ قَبْلَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ ‏,‏ وَفِي الْبَاطِنِ إنْ لَمْ يَعْتَقِدْ الْإِسْلَامَ بِقَلْبِهِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ بَاطِنًا وَلَا حَظَّ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ ‏.‏

قَالَ فِي الْمُغْنِي‏:‏ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا أَقَامَ عَلَى مَا عُوهِدَ عَلَيْهِ ‏,‏ وَالْمُسْتَأْمَنَ لَا يَجُوزُ نَقْضُ عَهْدِهِ وَلَا إكْرَاهُهُ عَلَى مَا لَا يَلْزَمُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

‏(‏تَنْبِيهٌ‏)‏ عِبَارَةُ الْفُرُوعِ‏:‏ وَإِنْ أُكْرِهَ حَرْبِيٌّ عَلَى إقْرَارِهِ بِهِ لَمْ يَصِحَّ ‏;‏ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ قُنْدُسٍ فِي حَوَاشِيهِ ‏,‏ وَالْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ فِي تَصْحِيحِهِ ‏.‏

قَالَ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ عِنْدَ قَوْلِهِ‏:‏ وَإِنْ أُكْرِهَ حَرْبِيٌّ ‏,‏ كَذَا فِي النُّسَخِ ‏,‏ وَصَوَابُهُ‏:‏ وَإِنْ أُكْرِهَ ذِمِّيٌّ وَبَعْضُهُمْ أَصْلَحَهَا كَذَلِكَ ‏,‏ انْتَهَى ‏.‏

وَفِي قَوَاعِدِ ابْن اللَّحَّامِ صَحَّحَ إسْلَامَ الْمُرْتَدِّ ‏,‏ وَالْحَرْبِيِّ ‏;‏ لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ بِحَقٍّ ‏,‏ وَلَوْ أُكْرِهَ الذِّمِّيُّ لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ ‏;‏ لِأَنَّ إكْرَاهَهُ ظُلْمٌ ‏,‏ وَفِي الِانْتِصَارِ احْتِمَالٌ ‏;‏ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ ‏,‏ وَإِنَّمَا ذَكَرْت لَك هَذَا حِرْصًا عَلَيْك مِنْ أَنْ يَسْبِقَ إلَى ذِهْنِك أَنَّ مَا فِي الْفُرُوعِ قَوْلٌ فِي الْمَذْهَبِ ‏,‏ بَلْ سَبْقُ قَلَمٍ ‏,‏ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

وَالصُّورَةُ الثَّالِثَةُ مَا ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ ‏(‏ثُمَّ‏)‏ ‏,‏ وَهِيَ حَرْفُ عَطْفٍ وَتَرْتِيبٍ ‏,‏ وَالْمُرَادُ بِالتَّرْتِيبِ هُنَا فِي الذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الْحَامِلَ لِلْإِتْيَانِ بِهَا ضَرُورَةُ النَّظْمِ ‏(‏الزِّنَا‏)‏ ‏,‏ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ‏(‏قَدْ‏)‏ أَيْ حَسْبَ بِمَعْنَى فَقَطْ ‏,‏ فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ بِإِكْرَاهٍ كَمَا قَدَّمْنَا ‏;‏ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالِانْتِشَارِ ‏,‏ وَالْإِكْرَاهُ يُنَافِيه ‏,‏ فَإِذَا وُجِدَ الِانْتِشَارُ انْتَفَى الْإِكْرَاهُ فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ ‏,‏ وَالْإِثْمُ ‏,‏ كَذَا قَالُوا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى ‏,‏ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي‏:‏ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ‏,‏ وَأَجَابَ عَنْ قَوْلِ الْأَصْحَابِ أَنَّ التَّخْوِيفَ يُنَافِي الِانْتِشَارَ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ ‏;‏ لِأَنَّ التَّخْوِيفَ بِتَرْكِ الْفِعْلِ ‏,‏ وَالْفِعْلُ لَا يُخَافُ مِنْهُ فَلَا يُمْنَعُ ذَلِكَ انْتَهَى ‏.‏

وَأَيْضًا الْإِكْرَاهُ شُبْهَةٌ ‏,‏ وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ‏.‏

وَفِي الْفُرُوعِ‏:‏ وَإِنْ أُكْرِهَ رَجُلٌ فَزَنَى فَعَنْهُ يُحَدُّ اخْتَارَهُ الْأَكْثَرُ ‏,‏ وَعَنْهُ لَا كَامْرَأَةٍ مُكْرَهَةٍ ‏,‏ أَوْ غُلَامٍ يَعْنِي عَلَى الْفِعْلِ فِيهِ بِإِلْجَاءٍ ‏,‏ أَوْ تَهْدِيدٍ ‏,‏ أَوْ مَنْعِ طَعَامٍ مَعَ اضْطِرَارٍ وَنَحْوِهِ ‏,‏ انْتَهَى ‏.‏

وَأَلْحَقَ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ اللَّحَّامِ بِذَلِكَ مَسَائِلَ مِنْهَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى وَطْءِ الْحَائِضِ ‏.‏

وَمِنْهَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى وَطْءِ امْرَأَتِهِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ ‏.‏

وَمِنْهَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ ‏,‏ وَمِنْهَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى إفْسَادِ وُضُوئِهِ ‏.‏

وَمِنْهَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الرَّضَاعِ ‏,‏ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ مَحَلَّ وِفَاقٍ ‏.‏

وَمِنْهَا لَوْ أَكْرَهَ الْمُؤْلِي عَلَى الْمُؤْلَى مِنْهَا فَوَطِئَ فَقَدْ فَاءَ إلَيْهَا ‏.‏

قَالَ فِي التَّرْغِيبِ‏:‏ إذْ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْوَطْءِ لَا يُتَصَوَّرُ ‏,‏ وَهُوَ كَمَا قَالَ ‏,‏ فَإِنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي الْمَذْهَبِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَا ذَكَرَهُ ‏.‏

 مطلب فِي بَيَانِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِكْرَاهُ

‏(‏تَنْبِيهَانِ‏)‏‏:‏ الْأَوَّلُ الْإِكْرَاهُ يَحْصُلُ بِالضَّرْبِ ‏,‏ أَوْ الْحَبْسِ ‏,‏ أَوْ أَخْذِ الْمَالِ أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ كَمَا أَشَرْنَا إلَى بَعْضِ ذَلِكَ ‏,‏ وَإِنْ هَدَّدَ وَتَوَعَّدَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ بِهِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَكْرَهُوهُ عَلَى فِعْلِهِ رِوَايَةً وَاحِدَةً ‏,‏ وَكَذَا لَوْ شَتَمُوهُ ‏,‏ أَوْ سَبُّوهُ ‏,‏ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ قَدَّسَ اللَّهَ رُوحَهُ‏:‏ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَضُرُّهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ ‏,‏ أَوْ مَالِهِ ‏,‏ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُكْرَهًا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْإِكْرَاهِ مِنْ سُلْطَانٍ ‏,‏ أَوْ لِصٍّ ‏,‏ أَوْ مُتَغَلِّبٍ ‏,‏ نَصَّ عَلَيْهِ ‏.‏

وَإِنْ أَكْرَهَهُ بِتَعْذِيبِ وَلَدِهِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يَكُونُ إكْرَاهًا ‏,‏ وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ بَلَى وَيُتَّجَهُ ‏,‏ مِثْلُ وَلَدِهِ كُلُّ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ تَعْذِيبُهُ مَشَقَّةً عَظِيمَةً مِنْ وَالِدٍ وَزَوْجَةٍ وَصَدِيقٍ كَمَا فِي الْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ لِابْنِ اللَّحَّامِ رحمه الله تعالى ‏.‏

 مطلب هَلْ الْأَفْضَلُ إذَا أُكْرِهَ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ أَنْ يُجِيبَ أَوْ يَصْبِرَ‏؟‏

الثَّانِي هَلْ الْأَفْضَلُ إذَا أُكْرِهَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ أَنْ يُجِيبَ إلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ ‏,‏ أَوْ يَصْبِرَ‏؟‏ فِي الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ‏.‏

وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي أَسِيرٍ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْقَتْلِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ إنْ صَبَرَ فَلَهُ الشَّرَفُ ‏,‏ وَإِنْ لَمْ يَصْبِرْ فَلَهُ الرُّخْصَةُ ‏,‏ وَقَالَ الْقَاضِي‏:‏ الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُعْطِيَ التَّقِيَّةَ وَلَا يُظْهِرَ الْكُفْرَ حَتَّى يُقْتَلَ ‏.‏

وَاحْتَجَّ بِقِصَّةِ عَمَّارٍ وَخُبَيْبٍ ‏,‏ فَإِنَّ خُبَيْبًا لَمْ يُعْطِ أَهْلَ مَكَّةَ التَّقِيَّةَ حَتَّى قُتِلَ فَكَانَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلَ مِنْ عَمَّارٍ رضي الله عنهما ‏,‏ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي قَوَاعِدِ الْأُصُولِ ‏.‏

وَلَمَّا فَرَغَ النَّاظِمُ مِنْ أَحْكَامِ الدَّوَابِّ وَمِنْ وَسْمِهَا ‏,‏ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ ‏,‏ وَمَا يُبَاحُ قَتْلُهُ ‏,‏ وَمَا يَحْرُمُ ‏,‏ وَمَا يُكْرَهُ ‏,‏ وَمَا يُسْتَحَبُّ وَذَكَرَ حُكْمَ الْإِكْرَاهِ ‏,‏ وَأَنَّهُ مَا يَحِلُّ لِلْمُضْطَرِّ يَحِلُّ لِلْمُكْرَهِ ‏,‏ وَأَنَّ الْمُكْرَهَ أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ الصَّادِرَةَ مِنْهُ لِدَاعِي الْإِكْرَاهِ لَغْوٌ إلَّا مَا اسْتَثْنَى أَعْقَبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ طَرَفٍ مِنْ آدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَقَالَ‏:‏

 مطلب فِي آدَابِ الْأَكْلِ

وَيُكْرَهُ نَفْخٌ فِي الْغَدَا وَتَنَفُّسٌ وَجَوْلَانُ أَيْدٍ فِي طَعَامٍ مُوَحَّدِ ‏(‏وَيُكْرَهُ‏)‏ تَنْزِيهًا ‏,‏ وَقَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْمَكْرُوهَ يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ ‏(‏نَفْخٌ‏)‏ مَصْدَرُ نَفَخَ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ نَفَخَ بِفِيهِ أَخْرَجَ مِنْهُ الرِّيحَ ‏(‏فِي الْغَدَا‏)‏ مُتَعَلِّقٌ بِ نَفْخٌ ‏.‏

أَصْلُ الْغَدَا طَعَامُ الْغَدْوَةِ وَجَمْعُهُ أَغْدِيَةٌ وَتَغَدَّى أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ وَغَدَّيْته تَغْدِيَةً فَهُوَ غَدْيَانُ ‏,‏ وَهِيَ غديا ‏,‏ وَالْغُدْوَةُ بِالضَّمِّ الْبُكْرَةُ ‏,‏ أَوْ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ كَالْغَدَاةِ ‏,‏ والغدية ‏.‏

وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ الْغَدَاءُ مَا كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ ‏,‏ وَالْعَشَاءُ بَعْدَهُ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ‏,‏ فَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَغَدَّى فَأَكَلَ بَعْدَ الزَّوَالِ ‏,‏ أَوْ لَا يَتَعَشَّى فَأَكَلَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ ‏,‏ أَوْ لَا يَتَسَحَّرُ فَأَكَلَ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَلَا نِيَّةَ لَمْ يَحْنَثْ ‏,‏ وَالْمُرَادُ بِهِ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ مُطْلَقُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ هَذَا إنْ كَانَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ‏,‏ وَصَوَابُهُ بِالْغَيْنِ الْمَكْسُورَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَتَيْنِ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ الْغِذَاءُ كَكِسَاءٍ مَا بِهِ نَمَاءُ الْجِسْمِ وَقِوَامُهُ وَغَذَاهُ غَذْوًا وَغَذَّاهُ وَاغْتَذَى وَتَغَذَّى ‏,‏ فَإِنَّ لَفْظَهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ يَدُلُّ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كُلَّ وَقْتٍ بِالْمُطَابَقَةِ بِخِلَافِ الْغَدَاءِ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ ‏,‏ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْأَكْلِ قَبْلَ الزَّوَالِ خَاصَّةً وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ ‏,‏ وَمَا دَلَّ بِالْمُطَابَقَةِ أَوْلَى مِمَّا لَا دَلَالَةَ عَلَى شَيْءٍ إلَّا بِطَرِيقِ الْحَمْلِ ‏.‏

فَظَهَرَ أَنَّ الْمُعْجَمَةَ هِيَ الصَّوَابُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏(‏و‏)‏ يُكْرَهُ أَيْضًا فِي الْغَدَا يَعْنِي فِي الْمَأْكُولِ ‏,‏ وَالْمَشْرُوبِ ‏(‏تَنَفُّسٌ‏)‏ أَيْ أَنْ يَتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ الَّذِي فِيهِ الْغِذَاءُ قَبْلَ إبَانَتِهِ عَنْ فِيهِ بِأَنْ يَخْرُجَ نَفَسُ الشَّارِبِ وَنَحْوُهُ فِي الْإِنَاءِ ‏.‏

وَالنَّفَسُ بِالتَّحْرِيكِ وَاحِدُ الْأَنْفَاسِ ‏,‏ وَتَنَفَّسَ الصُّبْحُ تَبَلَّجَ ‏.‏

 مطلب فِيمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ النَّفْخِ فِي الْإِنَاءِ وَالتَّنَفُّسِ فِيهِ

وَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ النَّفْخِ فِي الْإِنَاءِ وَالتَّنَفُّسِ فِيهِ ‏.‏

رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ ‏,‏ أَوْ يَنْفُخَ فِيهِ ‏.‏

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا ‏,‏ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ الْقَذَاةُ أَرَاهَا فِي الْإِنَاءِ فَقَالَ ‏"‏ أَهْرِقْهَا ‏"‏ قَالَ‏:‏ فَإِنِّي لَا أُرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ ‏,‏ قَالَ ‏"‏ فَأَبِنْ الْقَدَحَ إذَنْ عَنْ فِيك ‏"‏ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَيْضًا رضي الله عنه قَالَ‏:‏ ‏"‏ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ وَأَنْ يُنْفَخَ فِي الشَّرَابِ ‏"‏ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ النَّهْيَ عَنْ التَّنَفُّسِ فِي الْإِنَاءِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ ‏.‏

وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ مِنْ فِيِّ السِّقَاءِ وَأَنْ يَتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ ‏"‏ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ ‏"‏ يَعْنِي أَنْ تُكْسَرَ أَفْوَاهُهَا فَيُشْرَبُ مِنْهَا ‏.‏

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِيِّ السِّقَاءِ ‏,‏ فَأُنْبِئْت أَنَّ رَجُلًا شَرِبَ مِنْ فِيِّ السِّقَاءِ فَخَرَجَتْ حَيَّةٌ ‏,‏ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا دُونَ قَوْلِهِ‏:‏ فَأُنْبِئْت إلَى آخِرِهِ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ بِتَمَامِهِ ‏,‏ وَقَالَ‏:‏ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ ‏.‏

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ ‏,‏ وَأَنَّ رَجُلًا بَعْدَ مَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ قَامَ مِنْ اللَّيْلِ إلَى سِقَاءٍ فَاخْتَنَثَهُ فَخَرَجَتْ عَلَيْهِ مِنْهُ حَيَّةٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وهرام ‏,‏ وَبَقِيَّةُ إسْنَادِهِ ثِقَاتٌ ‏,‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ عَنْ اخْتِنَاثِ السِّقَاءِ يُقَالُ خَنَثَ السِّقَاءَ وَأَخْنَثه إذَا كَسَرَ فَمَه إلَى خَارِجٍ فَشَرِبَ مِنْهُ ‏.‏

 مطلب فِي إبَانَةِ الشَّابِّ الْقَدَحَ عَنْ فِيهِ ثَلَاثًا

‏(‏تَنْبِيهَاتٌ‏)‏‏:‏ الْأَوَّلُ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا وَيَقُولُ‏:‏ ‏"‏ هُوَ أَمْرَأُ وَأُرْوَى ‏"‏ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَنَفَّسُ ثَلَاثًا ‏,‏ وَقَالَ‏:‏ هَذَا صَحِيحٌ ‏,‏ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ‏:‏ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُبِينُ الْقَدَحَ عَنْ فِيهِ كُلَّ مَرَّةٍ ‏,‏ ثُمَّ يَتَنَفَّسُ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ لَا أَنَّهُ كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي نِهَايَتِهِ‏:‏ وَفِيهِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّفَسِ فِي الْإِنَاءِ ‏,‏ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا ‏,‏ يَعْنِي فِي الشُّرْبِ ‏,‏ الْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ وَهُمَا بِاخْتِلَافِ تَقْدِيرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَشْرَبَ ‏,‏ وَهُوَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبِينَهُ عَنْ فِيهِ ‏,‏ وَهُوَ مَكْرُوهٌ ‏,‏ وَالْآخَرُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ الْإِنَاءِ بِثَلَاثَةِ أَنْفَاسٍ يَفْصِلُ فِيهَا فَاهُ عَنْ الْإِنَاءِ ‏.‏

‏(‏الثَّانِي‏)‏ رَوَى أَبُو دَاوُدَ ‏,‏ وَالْبَيْهَقِيُّ ‏"‏ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِإِدَاوَةٍ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ‏:‏ اخْتَنَثَ فَمَ الْإِدَاوَةِ ‏,‏ ثُمَّ شَرِبَ مِنْ فِيهَا ‏"‏ فَمَا هَذَا الْأَمْرُ بَعْدَ النَّهْيِ الصَّحِيحِ وَالزَّجْرِ عَنْ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ‏؟‏ فَظَاهِرُ صَنِيعِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّ خَبَرَ النَّهْيِ كَانَ بَعْدَ هَذَا فَيَكُونُ مَنْسُوخًا ‏,‏ وَأَمَّا التِّرْمِذِيُّ ‏,‏ فَإِنَّهُ رَوَاهُ ‏,‏ وَقَالَ‏:‏ لَيْسَ إسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ فَيَكُونُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ الزَّجْرَ لَا الْأَمْرَ ‏,‏ وَهُوَ ظَاهِرُ صَنِيعِ الْحَافِظِ الْمُنْذِرِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب لَا بَأْسَ بِنَفْخِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إذَا كَانَ حَارًّا لِحَاجَةٍ

‏(‏الثَّالِثُ‏)‏ قَالَ الْآمِدِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى وَغَيْرِهُ‏:‏ لَا بَأْسَ بِنَفْخِ الطَّعَامِ إذَا كَانَ حَارًّا وَيُكْرَهُ أَكْلُهُ حَارًّا ‏,‏ وَهُوَ ظَاهِرُ الْإِقْنَاعِ ‏,‏ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ وَيُكْرَهُ نَفْخُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالتَّنَفُّسُ فِي إنَائِهِمَا وَأَكْلُهُ حَارًّا إنْ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ ‏,‏ فَقَوْلُهُ‏:‏ إنْ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ رَاجِعٌ إلَى النَّفْخِ وَالتَّنَفُّسِ وَأَكْلِ الْحَارِّ ‏.‏

وَفِي الْمُسْتَوْعِبِ‏:‏ النَّفْخُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ‏,‏ وَالْكِتَابِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ‏,‏ قَالَ الْآمِدِيُّ‏:‏ لَا يُكْرَهُ النَّفْخُ وَالطَّعَامُ حَارٌّ وَصَوَّبَهُ فِي الْإِنْصَافِ إنْ كَانَ ثَمَّ حَاجَةٍ إلَى الْأَكْلِ حِينَئِذٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

‏(‏الرَّابِعُ‏)‏ مُرَادُ النَّاظِمِ بِالْغَدَا مَا يَشْمَلُ الشَّرَابَ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَأْكُولِ ‏,‏ وَالْمَشْرُوبِ ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ يُكْرَهُ نَفْخُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ‏,‏ أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ ‏,‏ وَحِكْمَةُ ذَلِكَ تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ ‏,‏ وَبِذَلِكَ سَوَّى الشَّارِعُ بَيْنَ النَّفْخِ وَالتَّنَفُّسِ فِيهِ انْتَهَى ‏.‏

فَيَشْمَلُ نَحْوَ قَهْوَةِ الْبُنِّ مَعَ أَنَّهَا إنَّمَا تُشْرَبُ ‏,‏ وَفِيهَا حَرَارَةٌ لَكِنْ غَيْرُ مُؤْذِيَةٍ ‏,‏ فَإِذَا احْتَاجَ إلَى النَّفْخِ فَلَا كَرَاهَةَ وَإِلَّا كُرِهَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي كَرَاهَةِ جَوَلَانِ الْأَيْدِي فِي الطَّعَامِ

إذَا كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا وَعَدَمِهَا إذَا تَعَدَّدَ

‏(‏و‏)‏ يُكْرَهُ ‏(‏جَوَلَانُ‏)‏ مَصْدَرٌ مِنْ جَالَ فِي الْحَرْبِ جَوْلَةً ‏,‏ وَفِي الطَّوَافِ جَوْلًا وَيُضَمُّ وَجَوْلًا وَجَوَلَانًا مُحَرَّكَةً وجيلانا بِالْكَسْرِ وَاجْتَالَ طَافَ ‏,‏ وَالْمُرَادُ هُنَا إذَا طَاشَتْ يَدُهُ فِي الصَّحْفَةِ ‏,‏ وَأَمَّا الْجَوْلَانُ بِالسُّكُونِ فَجَبَلٌ بِالشَّامِ ‏,‏ وَإِنَّمَا نُسَكِّنُ الْوَاوَ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ لِلْوَزْنِ ‏(‏أَيْدٍ فِي طَعَامٍ مُوَحَّدِ‏)‏ النَّوْعِ ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى وَيُكْرَهُ أَكْلُهُ مِمَّا يَلِي غَيْرَهُ وَالطَّعَامُ نَوْعٌ وَاحِدٌ ‏.‏

ذَكَرَ هَذَا الْقَيْدَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا ‏,‏ وَإِطْلَاقُ النَّاظِمِ يَشْمَلُ مَا إذَا كَانَ الْآكِلُ وَحْدَهُ ‏,‏ وَعِبَارَةُ الْآدَابِ الْكُبْرَى تَأْبَاهُ ‏,‏ وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ رضي الله عنه‏:‏ وَإِذَا أَكَلْت مَعَ غَيْرِك فَكُلْ مِمَّا يَلِيك ‏.‏

وَفِي الْفُرُوعِ‏:‏ وَيَأْكُلُ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِمَّا يَلِيه ‏.‏

قَالَ جَمَاعَةٌ‏:‏ وَالطَّعَامُ نَوْعٌ وَاحِدٌ ‏.‏

قَالَ الْآمِدِيُّ‏:‏ لَا بَأْسَ أَيْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ غَيْرِ مَا يَلِيه ‏,‏ وَهُوَ وَحْدَهُ انْتَهَى ‏.‏

وَدَلِيلُ كَرَاهَةِ جَوَلَانِ الْيَدِ فِي الطَّعَامِ قَوْلُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام لِعُمَرِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ ‏"‏ كُلْ مِمَّا يَلِيك ‏"‏ أَخْرَجَاهُ ‏.‏

فَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا فَلَا بَأْسَ فَاَلَّذِي نَهَى فِي اتِّحَادٍ قَدْ عَفَا فِي التَّعَدُّدِ ‏(‏فَإِنْ كَانَ‏)‏ الْآكِلُ وَحْدَهُ ‏,‏ أَوْ كَانَ مَعَ جَمَاعَةٍ وَكَانَ الطَّعَامُ ‏(‏أَنْوَاعًا فَلَا بَأْسَ‏)‏ أَيْ لَا حَرَجَ وَلَا كَرَاهَةَ فِي جَوَلَانِ الْيَدِ حِينَئِذٍ ‏(‏فَاَلَّذِي نَهَى‏)‏ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ جَوَلَانِ الْيَدِ فِيهِ إنَّمَا هُوَ ‏(‏فِي اتِّحَادٍ‏)‏ أَيْ نَهْيُهُ عليه الصلاة والسلام إنَّمَا هُوَ مَعَ اتِّحَادِ النَّوْعِ و ‏(‏قَدْ عَفَا‏)‏ عَنْ جَوَلَانِ الْيَدِ ‏(‏فِي‏)‏ أَيْ مَعَ ‏(‏التَّعَدُّدِ‏)‏ فِي أَنْوَاعِ الطَّعَامِ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ حَيْثُ شَاءَ ‏;‏ لِمَا رُوِيَ عَنْ عِكْرَاشِ بْنِ ذُؤَيْبٍ التَّيْمِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَخَذَ بِيَدِهِ فَانْطَلَقَ بِهِ إلَى مَنْزِلِ أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ هَلْ مِنْ طَعَامٍ‏؟‏ ‏"‏ فَأَتَيْنَا بِجَفْنَةٍ كَثِيرَةِ الطَّعَامِ ‏,‏ وَالْوَدَكِ فَأَقْبَلْنَا نَأْكُلُ مِنْهَا فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَجَعَلْت أَخْبِطُ فِي نَوَاحِيهَا فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى يَدِي الْيُمْنَى ‏,‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏"‏ يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ‏,‏ فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَاحِدٌ ‏"‏ ‏,‏ ثُمَّ أُتِينَا بِطَبَقٍ فِيهِ أَلْوَانٌ مِنْ رُطَبٍ ‏,‏ أَوْ تَمْرٍ شَكَّ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِكْرَاشٍ قَالَ عِكْرَاشُ‏:‏ فَجَعَلْت آكُلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَجَالَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الطَّبَقِ ‏,‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏"‏ يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ حَيْثُ شِئْت ‏,‏ فَإِنَّهُ مِنْ غَيْرِ لَوْنٍ وَاحِدٍ ‏"‏ ‏,‏ ثُمَّ أُتِينَا بِمَاءٍ فَغَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ ‏,‏ ثُمَّ مَسَحَ بِبَلِّ كَفَّيْهِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ ‏,‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏"‏ يَا عِكْرَاشُ هَذَا الْوُضُوءُ مِمَّا غَيَّرَتْ النَّارُ ‏"‏ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ فِي الغيلانيات وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ ‏,‏ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ ‏,‏ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِكْرَاشٍ مَجْهُولٌ ‏,‏ وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ‏,‏ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ لَا يَثْبُتُ ‏,‏ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي كَرَاهَةِ الْأَكْلِ مِنْ ذُرْوَةِ الطَّعَامِ وَمِنْ وَسَطِهِ

‏(‏تَتِمَّةٌ‏)‏ يُكْرَهُ الْأَكْلُ مِنْ ذُرْوَةِ الطَّعَامِ وَمِنْ وَسَطِهِ ‏,‏ بَلْ يَأْكُلُ مِنْ أَسْفَلِهِ ‏,‏ وَكَذَلِكَ الْكَيْلُ ‏,‏ قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ وَيُكْرَهُ مِنْ وَسَطِ الْقَصْعَةِ وَالصَّحْفَةِ وَأَعْلَاهَا ‏,‏ وَكَذَلِكَ الْكَيْلُ ‏,‏ ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ ‏;‏ لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ ‏,‏ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ الْبَرَكَةُ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ فَكُلُوا مِنْ حَافَّتَيْهِ وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ ‏"‏ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ وَلَفْظُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَأْكُلْ مِنْ أَعْلَى الصَّفْحَةِ وَلَكِنْ لِيَأْكُلْ مِنْ أَسْفَلِهَا ‏,‏ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ مِنْ أَعْلَاهَا ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَصْعَةٌ يُقَالُ لَهَا الْغَرَّاءُ يَحْمِلُهَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ فَلَمَّا أَضْحَوْا وَسَجَدُوا الضُّحَى أَتَى بِتِلْكَ الْقَصْعَةِ يَعْنِي ‏,‏ وَقَدْ أَثْرَدَ فِيهَا فَالْتَفُّوا عَلَيْهَا فَلَمَّا كَثُرُوا جَثَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ‏؟‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا ‏"‏ ‏,‏ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا وَذَرُوا ذِرْوَتَهَا يُبَارَكُ فِيهَا ‏"‏ ذِرْوَتُهَا بِكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَعْلَاهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي كَرَاهَةِ الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِالْيَدِ الْيُسْرَى

وَأَخْذٌ وَإِعْطَاءٌ وَأَكْلٌ وَشُرْبُهُ بِيُسْرَاهُ فَاكْرَهْهُ وَمُتَّكِئًا دَدْ ‏(‏و‏)‏ يُكْرَهُ تَنْزِيهًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ ‏(‏أَخْذٌ‏)‏ بِالْيَدِ الْيُسْرَى ‏(‏و‏)‏ يُكْرَهُ أَيْضًا ‏(‏إعْطَاءٌ‏)‏ بِالْيَدِ الْيُسْرَى ‏(‏و‏)‏ يُكْرَهُ أَيْضًا ‏(‏أَكْلٌ وَشُرْبُهُ‏)‏ أَيْ شُرْبُ الشَّارِبِ ‏(‏بِيُسْرَاهُ‏)‏ أَيْ بِيَدِهِ الْيُسْرَى ‏(‏فَاكْرَهْهُ‏)‏ أَيْ اكْرَهْ كُلَّ ذَلِكَ لِنَهْيِ الشَّارِعِ عليه الصلاة والسلام عَنْهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَا يَأْكُلَنَّ أَحَدُكُمْ بِشِمَالِهِ وَلَا يَشْرَبَنَّ بِهَا ‏,‏ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِهَا ‏"‏ قَالَ‏:‏ وَكَانَ نَافِعٌ يَزِيدُ فِيهِ ‏"‏ وَلَا يَأْخُذْ بِهَا وَلَا يُعْطِ بِهَا ‏"‏ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ بِدُونِ الزِّيَادَةِ وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُدَ بِنَحْوِهِ ‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ لِيَأْكُلْ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ وليشرب بِيَمِينِهِ وَلْيُعْطِ بِيَمِينِهِ ‏,‏ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ وَيُعْطِي بِشِمَالِهِ وَيَأْخُذُ بِشِمَالِهِ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ أَكَلَ بِشِمَالِهِ أَكَلَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ ‏,‏ وَمَنْ شَرِبَ بِشِمَالِهِ شَرِبَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ ‏"‏ ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ حَزْمٍ أَنَّ الْأَكْلَ بِالشِّمَالِ مُحَرَّمٌ لِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى مِنْ أَصْحَابِنَا‏:‏ وَإِذَا أَكَلْت ‏,‏ أَوْ شَرِبْت فَوَاجِبٌ عَلَيْك أَنْ تَقُولَ‏:‏ بِسْمِ اللَّهِ وَتَنَاوَلَ بِيَمِينِك ‏.‏

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رضي الله عنه‏:‏ كَلَامُ ابْنِ أَبِي مُوسَى فِيهِ وُجُوبُ التَّسْمِيَةِ وَالتَّنَاوُلِ بِالْيَمِينِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ‏:‏ يَجِبُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْيُسْرَى وَمَسُّ الْفَرْجِ بِهَا دُونَ الْيُمْنَى ‏;‏ لِأَنَّ النَّهْيَ فِي كِلَيْهِمَا وَارِدٌ ‏,‏ انْتَهَى ‏.‏

وَفِي الْإِقْنَاعِ كَغَيْرِهِ‏:‏ وَتُسَنُّ التَّسْمِيَةُ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ‏,‏ إلَى أَنْ قَالَ‏:‏ وَأَنْ يَأْكُلَ بِيَمِينِهِ وَمِمَّا يَلِيه وَيُكْرَهُ تَرْكُهُمَا ‏,‏ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ بِشِمَالِهِ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ ‏,‏ وَمُرَادُهُ كَغَيْرِهِ بِالضَّرُورَةِ الْحَاجَةُ إذْ الْكَرَاهَةُ تَزُولُ بِالْحَاجَةِ ‏.‏

وَفِي الْإِقْنَاعِ كَالْآدَابِ الْكُبْرَى ‏,‏ وَإِنْ جَعَلَ بِيَمِينِهِ خُبْزًا وَبِشِمَالِهِ شَيْئًا يَأْتَدِمُ بِهِ ‏,‏ وَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا كُرِهَ ‏.‏

وَعِبَارَةُ الْآدَابِ‏:‏ وَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا وَمِنْ هَذَا كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ ‏;‏ لِأَنَّهُ أَكَلَ بِشِمَالِهِ وَلِمَا فِيهِ مِنْ الشَّرَهِ وَغَيْرِهِ لَا سِيَّمَا إذَا كَرِهَ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ لُقْمَةً حَتَّى يَبْلَعَ مَا قَبْلَهَا ‏.‏

وَذَكَرَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ ‏,‏ وَكَذَا الْقَاضِي وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ أَنَّ تَنَاوُلَ الشَّيْءِ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ بِالْيُمْنَى مُسْتَحَبٌّ قَالُوا‏:‏ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُنَاوِلَ إنْسَانًا تَوْقِيعًا ‏,‏ أَوْ كِتَابًا فَلْيَقْصِدْ بِيَمِينِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَم ‏.‏